فصل: الآية رقم ‏(‏52‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏45 ‏:‏ 46‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ‏.‏ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ‏}‏

هذا تعليم من اللّه تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا‏}‏‏.‏ وفي الصحيحين‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا اللّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف‏)‏، ثم قام النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان عن عبد اللّه بن أبي أوفى مرفوعاً‏"‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن اللّه يحب الصمت عند ثلاث‏:‏ عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة‏)‏ ‏"‏أخرجه الطبراني عن زيد بن أرقم مرفوعاً‏"‏‏.‏

وفي الحديث الآخر المرفوع يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏(‏إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجزٌ قرنه ‏:‏ أي لا يشغله ذلك الحال عن ذكري ودعائي واستعانتي‏.‏ وقال قتادة‏:‏ افترض اللّه ذكره عند أشغل ما يكون، عند الضرب بالسيوف‏.‏

وعن كعب الأحبار قال‏:‏ ما من شيء أحب إلى اللّه تعالى من قراءة القرآن والذكر، ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا اللّه كثيرا لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏ فأمر تعالى باثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا اللّه في تلك الحال ولا ينسوه، بل يستعينوا به، ويتوكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضاً فيختلفوا، فيكون سبباً لتخاذلهم وفشلهم، ‏{‏وتذهب ريحكم‏}‏ أي قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال ‏{‏واصبروا إن اللّه مع الصابرين‏}‏ وقد كان للصحابة رضي اللّه عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم اللّه ورسوله به، وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقاً وغرباً في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم، وقهروا الجميع حتى علت كلمة اللّه وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي اللّه عنهم وأرضاهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏47 ‏:‏ 49‏)‏

‏{‏ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ‏.‏ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ‏.‏ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم‏}‏ يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله وكثرة ذكره، ناهياً لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم بطراً، أي دفعاً للحق، ‏{‏ورئاء الناس‏}‏ وهو المفاخرة والتكبر عليهم، كما قال أبو جهل‏:‏ لا واللّه، لا نرجع حتى نرد ماء بدر وننحر الجزر، ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان، فانعكس ذلك عليه أجمع، لأنهم وردوا به الحِمام، وركموا في أطواء بدر مهانين أذلاء، في عذاب سرمدي أبدي، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏والله بما يعملون محيط‏}‏ أي عالم بما جاءوا به، ولهذا جازاهم عليه شر الجزاء لهم‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ هم المشركون الذين قاتلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر وهو قول قتادة والضحاك والسدي وغيرهم ، وقال محمد بن كعب، لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم‏}‏ الآية؛ حسَّن لهم لعنه اللّه ما جاءوا له وما هموا به، وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس، ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم، كما قال تعالى عنه‏:‏ ‏{‏يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏، قال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين أن أحداً لن يغلبكم، وإني جار لكم، فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة ‏{‏نكص على عقبيه‏}‏ قال‏:‏ رجع مدبراً، وقال‏:‏ ‏{‏إني أرى ما لا ترون‏}‏ الآية‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ جاء إبليس يوم بدر في جندٍ من الشياطين معه رايته، في صورة رجل من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان للمشركين‏:‏ لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما اصطف الناس أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته، فقال الرجل يا سراقة أتزعم أنك لنا جار‏؟‏ فقال‏:‏ إني أرى ما لا ترون إني أخاف اللّه واللّه شديد العقاب؛ وذلك حين رأى الملائكة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ وذكر لنا أنه رأى جبريل عليه السلام تنزل معه الملائكة، فعلم عدو اللّه أنه لا يدان له بالملائكة فقال‏:‏ إني أرى ما لا ترون إني أخاف اللّه، وكذب عدو اللّه، واللّه ما به مخافة اللّه، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة، وتلك عادة عدو اللّه لمن أطاعه واستقاد له، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم وتبرأ منهم عند ذلك‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف اللّه رب العالمين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الشيطان لما قضي الأمر إن اللّه وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم‏}‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل اللّه المسلمين في أعين المشركينن وقلل المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون‏:‏ غرَّ هؤلاء دينهم، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم،

فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال اللّه‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل على اللّه فإن اللّه عزيز حكيم‏}‏، قال قتادة‏:‏ وذكر لنا أن أبا جهل عدو اللّه لما أشرف على محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه قال‏:‏ واللّه لا يعبد اللّه بعد اليوم قسوة وعتواً، وقال ابن جريج‏:‏ هم قوم كانوا مع المنافقين بمكة قالوه يوم بدر، وقال الشعبي‏:‏ كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا‏:‏ غرَّ هؤلاء دينهم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هم فئة من قريش خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحسبهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا‏:‏ غرَّ هؤلاء دينهم، حتى قدموا على قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم‏.‏ وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار سواء‏.‏

وقال ابن جرير عن الحسن في هذه الآية قال‏:‏ هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل على الله‏}‏ أي يعتمد على جنابه ‏{‏فإن اللّه عزيز‏}‏ أي لا يضام من التجأ إليه،

فإن اللّه عزيز منيع الجناب عظيم السلطان ‏{‏حكيم‏}‏ في أفعاله لا يضعها إلا في مواضعها، فينصر من يستحق النصر، ويخذل من هو أهل لذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏50 ‏:‏ 51‏)‏

‏{‏ لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ‏.‏ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار، لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فظيعاً منكراً، إذ ‏{‏يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولوا أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم، وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏يضربون وجوههم وأدبارهم‏}‏ يوم بدر، وقال سعيد بن جبير ‏{‏يضربون وجوههم وأدبارهم‏}‏ قال‏:‏ وأستاههم، ولكنَّ اللّه يكني؛ والسياق وإن كان سببه وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم‏}‏ وفي سورة القتال مثلها، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ المجرمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم‏}‏ أي باسطو أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم إذا استصعبت أنفسهم، وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهراً، وذلك إذا بشروهم بالعذاب والغضب من اللّه، كما جاء في حديث البراء‏:‏ ‏(‏أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة يقول‏:‏ اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم، فتتفرق في بدنه، فيستخرجونها من جسده كما يخرج السفود من الصفوف المبلول، فتخرج معها العروق والعصب‏)‏، ولهذا أخبر تعالى أن الملائكة تقول لهم‏:‏ ذوقوا عذاب الحريق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بما قدمت أيديكم‏}‏ أي هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا،

جازاكم اللّه بها هذا الجزاء، ‏{‏وأن اللّه ليس بظلام للعبيد‏}‏‏:‏ أي لا يظلم أحداً من خلقه، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور، تبارك وتقدس الغني الحميد، ولهذا جاء في الحديث القدسي الصحيح‏:‏ ‏(‏يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏)‏

 الآية رقم ‏(‏52‏)‏

‏{‏كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد، كما فعل الأمم المكذبة قبلهم، ففعلنا بهم ما هو دأبنا، أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون، ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل، الكافرين بآيات اللّه ‏{‏فأخذهم اللّه بذنوبهم‏}‏ أي بسبب ذنوبهم أهلكهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ‏{‏إن اللّه قوي شديد العقاب‏}‏ أي لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏53 ‏:‏ 54‏)‏

‏{‏ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ‏.‏ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ‏}‏

يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحدٍ إلا بسبب ذنب ارتكبه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كدأب آل فرعون‏}‏ أي كصنعه بآل فرعون وأمثالهم حين كذبوا بآياته، لكهم بسبب ذنوبهم وسلبهم تلك النعمة التي أسداها إليهم من جنات وعيون، ونعمة كانوا فاكهينن وما ظلمهم اللّه في ذلك بل كانوا هم الظالمين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏55 ‏:‏ 57‏)‏

‏{‏ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ‏.‏ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ‏.‏ فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ‏}‏

أخبر تعالى أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين كلما عاهدوا عهداً نقضوه، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه، ‏{‏وهم لا يتقون‏}‏‏:‏ أي لا يخافون من اللّه في شيء ارتكبوه من الآثام، ‏{‏فإما تثقفنهم في الحرب‏}‏ أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب ‏{‏فشرد بهم من خلفهم‏}‏ أي نكّل بهم قاله ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسدي وعطاء الخراساني وابن عيينة ، ومعناه‏:‏ غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة ‏{‏لعلهم يذكرون‏}‏ لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏58‏)‏

‏{‏ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين‏}‏ يقول تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم‏}‏ قد عاهدتهم ‏{‏خيانة‏}‏ أي نقضاً لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود ‏{‏فانبذ إليهم‏}‏ أي عهدهم على سواء‏:‏ أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وحرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي تستوي أنت وهم في ذلك، قال الراجز‏:‏

فاضرب وجوه الغدر للأعداء * حتى يجيبوك إلى السواء

‏{‏إن اللّه لا يحب الخائنين‏}‏ ولو في حق الكفار لا يحبها أيضاً، عن سليم بن عامر قال‏:‏ كان معاوية يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول‏:‏ اللّه أكبر، اللّه أكبر، وفاء لا غدر، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها، حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء‏)‏، قال فبلغ ذلك معاوية، فرجع فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي اللّه عنه ‏"‏رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد عن سلمان الفارسي رضي اللّه عنه أنه انتهى إلى حصن أو مدينة، فقال لأصحابه‏:‏ دعوني أدعوهم كما رأيتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوهم، فقال إنما كنت رجلاً منكم فهداني اللّه عزَّ وجلَّ للإسلام، فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون، وإن أبيتم نابذناكم على سواء، ‏{‏إن اللّه لا يحب الخائنين‏}‏ يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون اللّه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏59 ‏:‏ 60‏)‏

‏{‏ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ‏.‏ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ‏}‏ يقول تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن‏}‏ يا محمد ‏{‏الذين كفروا سبقوا‏}‏ أي فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قهر قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون‏}‏ أي يظنون، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏‏.‏ ثم أمر تعالى بإعداد ألات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة فقال‏:‏ ‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم‏}‏ أي مهما أمكنكم ‏{‏من قوة ومن رباط الخيل‏}‏‏.‏ عن عقبة بن عامر قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول وهو على المنبر‏:‏ ‏(‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‏}‏، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجه وأبو داود‏"‏‏.‏ وروى الإمام أحمد وأهل السنن عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ارموا واركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا‏)‏ وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الخيل لثلاثة‏:‏ لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر‏.‏ فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل اللّه فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات،

ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفاً أو شرفين كانت آثارها وأورائها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقى به كان ذلك حسنات له، فهي لذلك الرجل أجر، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ولم ينس حق اللّه في رقابها ولا في ظهورها فهي له ستر، ورجل ربطها فخراً ورياء ونواء فهي على ذلك وزر‏)‏ وسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الحمر‏؟‏ فقال‏(‏ ‏:‏

ما أنزل اللّه عليّ فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره‏}‏ ‏"‏أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم ومالك‏}‏‏.‏ وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل، وذهب الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل من الرمي؛ وقوله الجمهور أقوى للحديث واللّه أعلم‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏(‏الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، ومن ربط فرساً في سبيل اللّه كانت النفقة عليه كالماد يده بالصدقة لا يقبضها‏)‏ ‏"‏أخرجه الطبراني عن سهل بن الحنظلية‏"‏‏.‏ وفي صحيح البخاري قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم‏)‏،

وقوله‏:‏ ‏{‏ترهبون‏}‏ أي تخوفون ‏{‏به عدو اللّه وعدوكم‏}‏ أي من الكفار ‏{‏وآخرين من دونهم‏}‏، قال مجاهد‏:‏ يعني بني قريظة، وقال السدي‏:‏ فارس، وقال سفيان الثوري‏:‏ هم الشياطين التي في الدور، وقال مقاتل‏:‏ هم المنافقون، وهذا أشبه الأقوال، ويشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من شيء في سبيل اللّه يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏}‏ أي مهما أنفقتم في الجهاد فإنه يوف إليكم على التمام والكمال، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل اللّه إلى سبعمائة ضعف كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبه أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏61 ‏:‏ 63‏)‏

‏{‏ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ‏.‏ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك اللهو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ‏.‏ وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم ‏{‏وإن جنحوا‏}‏ أي مالوا ‏{‏للسلم‏}‏ أي المسالمة والمصالحة والمهادنة ‏{‏فاجنح لها‏}‏ أي فمل إليها، واقبل منهم ذلك، ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تسع سنين، أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر‏}‏ الآية وهو قول عطاء وعكرمة والحسن وقتادة وزيد بن أسلم ، وفيه نظر، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص واللّه أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وتوكل على اللّه‏}‏ أي صالحهم وتوكل على اللّه، فإن اللّه كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا ‏{‏فإن حسبك اللّه‏}‏ أي كافيك وحده، ثم ذكر نعمته عليه بما أيده من المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقال‏:‏ ‏{‏هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم‏}‏ أي جمعها على الإيمان بك وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك، ‏{‏لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم‏}‏ أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية بين الأوس والخزرج، حتى قطع اللّه ذلك بنور الإيمان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا‏}‏‏.‏

وفي الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم‏:‏ ‏(‏يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلاّلاً فهداكم اللّه بي، وعالة فأغناكم اللّه بي، وكنتم متفرقين فألفكم اللّه بي‏)‏ كلما قالوا شيئاً قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أمنّ؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن اللّه ألف بينهم إنه عزيز حكيم‏}‏ أي عزيز الجناب فلا يخيب رجاء من توكل عليه ‏{‏حكيم‏}‏ في أفعاله وأحكامه، عن ابن عباس قال‏:‏ إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن اللّه إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم‏}‏، وعن مجاهد قال‏:‏ إذا التقى المتحابان في اللّه فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر، قال عبدة، فقلت له‏:‏ إن هذا ليسير فقال‏:‏ لا تقل ذلك، فإن اللّه يقول‏:‏ ‏{‏لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم‏}‏ قال عبدة‏:‏ فعرفت أنه أفقه مني‏.‏ عن سلمان الفارسي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار‏)‏

 الآية رقم ‏(‏64 ‏:‏ 66‏)‏

‏{‏ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ‏.‏ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ‏.‏ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ‏}‏

يحرض تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين على القتال، ومناجزة الأعداء، ومبارزة الأقران، ويخبرهم أنه حسبهم‏:‏ أي كافيهم ومؤيدهم على عدوهم، وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم، ولو قل عدد المؤمنين‏.‏ قال ابن أبي حاتم عن الشعبي في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حسبك اللّه ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏ قال‏:‏ حسبك اللّه وحسب من شهد معك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال‏}‏ أي حثهم وذمرهم عليه، ولهذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرض على القتال عند صفهم ومواجهة العدو، كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عدَدَهم وعُدَدهم‏:‏ ‏(‏قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض‏)‏ فقال عمير بن الحمام عرضها السموات والأرض‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏نعم‏)‏، فقال‏:‏ بخ بخ، فقال‏:‏ ‏(‏ما يحملك على قولك بخ بخ‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ رجاء أن أكون من أهلها، قال‏:‏ ‏(‏فإنك من أهلها‏)‏، فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم ألقى بقيتهن من يده، وقال‏:‏ لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي اللّه عنه‏.‏

ثم قال تعالى مبشراً للمؤمنين وآمراً‏:‏ ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا‏}‏ كل واحد بعشرة، ثم نسخ هذا الأمر وبقيت البشارة، قال عبد اللّه بن المبارك عن ابن عباس لما نزلت ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏ شق ذلك على المسلمين حين فرض اللّه عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم جاء التخفيف، فقال‏:‏ ‏{‏الآن خفف اللّه عنكم‏}‏ إلى قوله ‏{‏يغلبوا مائتين‏}‏ قال‏:‏ خفف اللّه عنهم من العدة ونقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم‏.‏ وروى البخاري نحوه، وعن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ثقل على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائةٌ ألفاً، فخفف اللّه عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال‏:‏ ‏{‏الآن خفف اللّه عنكم وعلم أن فيكم ضعفا‏}‏ الآية، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحرزوا عنهم وروي عن مجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وزيد ين أسلم وغيرهم ونحو ذلك ‏.‏ وروى الحافظ ابن مردويه عن ابن عمر رضي اللّه عنهما في قوله‏:‏ ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏ قال‏:‏ نزلت فينا أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏67 ‏:‏ 69‏)‏

‏{‏ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ‏.‏ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ‏.‏ فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ‏}‏

لما كان يوم بدر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما تقولون في هؤلاء الأسارى‏؟‏‏)‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول اللّه قومك وأهلك، استبقهم واستتبهم لعل اللّه أن يتوب عليهم، وقال عمر‏:‏ يا رسول اللّه كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد اللّه بن رواحة‏:‏ يا رسول اللّه أنت في واد كثير الحطب فاضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه، قال‏:‏ فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئاً، ثم قال فدخل، فقال ناس‏:‏ يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس‏:‏ يأخذ بقول عمر، وقال ناس‏:‏ يأخذ بقول عبد اللّه بن رواحة؛ ثم خرج عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن اللّه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال‏:‏ ‏{‏من تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال‏:‏ ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال‏:‏ ‏{‏ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏، وإن مثلك يا عبد اللّه كمثل نوح عليه السلام قال‏:‏ ‏{‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا‏}‏ أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق‏)‏، قال ابن مسعود‏:‏ قلت يا رسول اللّه إلا سهيل بن بيضاء فإنه يذكر الإسلام، فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إلا سهيل بن بيضاء‏)‏، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى‏}‏ إلى آخر الآية ‏"‏رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم في المستدرك وقال‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏"‏‏.‏ عن ابن عمر قال‏:‏ لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر، أسره رجل من الأنصار، قال‏:‏ وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم،

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه‏)‏ فقال له عمر‏:‏ أفآتهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، فأتى عمر الأنصار، فقال لهم‏:‏ أرسلوا العباس، فقالوا لا واللّه لا نرسله، فقال لهم عمر‏:‏ فإن كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رضى، قالوا‏:‏ فإن كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رضى فخذه، فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له‏:‏ يا عباس أسلم، فواللّه لأن تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعجبه إسلامك، قال‏:‏ واستشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر فيهم، فقال أبو بكر‏:‏ عشيرتك فأرسلهم، فاستشار عمر فقال‏:‏ اقتلهم، ففاداهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى‏}‏ الآية ‏"‏أخرجه ابن مردويه والحاكم في المستدرك وقال الحاكم‏:‏ صحيح الإسناد‏"‏‏.‏

قال ابن عباس ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى‏}‏ قال غنائم بدر قبل أن يحلها لهم، يقول‏:‏ لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم،

وكذا روي عن مجاهد، وقال الأعمش‏:‏ سبق منه أن لا يعذب أحداً شهد بدراً، وقال شعبة عن مجاهد ‏{‏لولا كتاب من اللّه سبق‏}‏ أي لهم بالمغفرة، وعن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لولا كتاب من اللّه سبق‏}‏ يعني في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى لكم ‏{‏لمسكم فيما أخذتم‏}‏ من الأسارى ‏{‏عذاب عظيم‏}‏، ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في الصحيحين‏:‏ ‏(‏أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي‏:‏ نصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة‏)‏ وقد روى الإمام أبو داود في سننه عن ابن عباس‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة، وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل كما فعل ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر، أو بمن أسر من المسلمين، كما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين، وإن شاء استرق من أسر، هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه من كتب الفقه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏70 ‏:‏ 71‏)‏

‏{‏ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ‏.‏ وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ‏}‏

قال محمد بن إسحاق عن ابن عباس رضي اللّه عنهما إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم بدر‏:‏ ‏(‏إني قد عرفت أن أناساً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً منهم - أي من بني هاشم - فلا يقتله، ومن لقي البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما خرج مستكرهاً‏)‏، فقال أبو حذيفة بن عتبة‏:‏ أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس‏؟‏ وللّه لئن لقيته لألجمنه بالسيف، فبلُغت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب‏:‏ ‏(‏يا أبا حفص - قال عمر‏:‏ واللّه إنه لأول يوم كناني فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا حفص - أيضرب وجه عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالسيف‏؟‏‏)‏، فقال عمر‏:‏ يا رسول اللّه ائذن لي فأضرب عنقه فواللّه لقد نافقن فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك‏:‏ واللّه ما آمن من تلك الكلمة التي قلت ولا أزال خائفاً منها إلا أن يكفرها اللّه تعالى عني بشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيداً رضي اللّه عنه، قال محمد بن إسحاق‏:‏ وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب، وذلك أنه كان رجلاً موسراً فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهباً‏.‏ وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك‏:‏ أن رجالاً من الأنصار قالوا‏:‏ يا رسول اللّه ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لا واللّه لا تذرون منه درهماً‏)‏، وبعثت قريش إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس‏:‏ يا رسول اللّه قد كنت مسلماً، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللّه أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن اللّه يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل وعقيل، وحليفك عتبة بن عمرو‏(‏ قال‏:‏ ما ذاك عندي يا رسول اللّه، قال‏:‏ ‏(‏فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل‏؟‏ فقلت لها إن أصبت في سفري هذا،

فهذا المال الذي دفنته لبنيّ الفضل وعبد اللّه وقثم‏(‏، قال‏:‏ واللّه يا رسول اللّه إني لأعلم أنك رسول اللّه، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول اللّه ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا، ذاك شيء أعطانا اللّه تعالى منك‏)‏، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ فيه‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم اللّه في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم‏}‏‏.‏ قال العباس‏:‏ فأعطاني اللّه مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة اللّه عزَّ وجلَّ‏.‏ وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ قال العباس فيّ نزلت‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏، فأخبرت النبي صلى اللّه عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذت مني فأبى، فأبدلني اللّه بها عشرين عبداً كلهم تاجرٌ مالي في يده‏.‏

وقال ابن عباس قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول اللّه لننصحن لك على قومنا، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏إن يعلم اللّه في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم‏}‏ يخلف لكم خيراً مما أخذ منكم ‏{‏ويغفر لكم‏}‏ الشرك الذي كنتم عليه، قال فكان العباس يقول‏:‏ ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا، وإن لي الدنيا، لقد قال‏:‏ ‏{‏يؤتكم خيرا مما أخذ منكم‏}‏ فقد أعطاني خيراً مما أخذ مني مائة ضعف، وقال‏:‏ ‏{‏ويغفر لكم‏}‏ وأرجو أن يكون قد غفر لي‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً، وقد توضأ لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذ شاكياً، ولا حرم سائلاً، وما صلى يومئذ حتى فرقه، فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي، فكان العباس يقول‏:‏ هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة‏.‏ قال الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك قال‏:‏ أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمال من البحرين فقال‏:‏ ‏(‏انثروه في مسجدي‏)‏ قال‏:‏ وكان أكثر مال أتي به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فخرج إلى الصلاة ولم يلتف إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحداً إلا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال‏:‏ يا رسول اللّه أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلاً، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏خذ فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال‏:‏ مر بعضهم يرفعه إليّ، قال‏:‏ لا ، قال‏:‏ فارفعه أنت عليّ، قال‏:‏ لا ، فنثر منه ثم احتمله على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي عنه عجباً من حرصه، فما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وثَمَّ منها درهم ‏"‏ورواه البخاري في مواضع من صحيحه تعليقاً‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا اللّه من قبل‏}‏ أي وإن يريدوا خيانتك فيما أظهروا لك من الأقوال ‏{‏فقد خانوا اللّه من قبل‏}‏ أي من قبل بدر بالكفر به ‏{‏فأمكن منهم‏}‏ أي بالأسارى يوم بدر ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ أي عليم بفعله حكيم فيه، قال قتادة‏:‏ نزلت في عبد اللّه بن أبي سرح الكاتب حين ارتد ولحق بالمشركين، وقال عطاء الخراساني‏:‏ نزلت في عباس وأصحابه حين قالوا‏:‏ لننصحن لك على قومنا، وقال السدي بالعموم، وهو أشمل وأظهر واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏72‏)‏

‏{‏ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ‏}‏

ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاءوا لنصر اللّه ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك، وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم، ونصروا اللّه ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏، أي كل منهم أحق بالآخر من كل أحد، ولهذا آخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة، حتى نسخ اللّه تعالى ذلك بالمواريث، ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد عن جرير بن عبد اللّه البجلي ورواه الحافظ أبو يعلى عن ابن مسعود موقوفاً‏"‏، وقد أثنى اللّه ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه فقال‏:‏ ‏{‏والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي اللّه عنهم ورضوا عنه‏}‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة‏}‏ الآية،

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم‏}‏ الآية، وأحسن ما قيل في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا‏}‏ أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم اللّه على هجرتهم فإن ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه العلماء لا يختلفون في ذلك؛ ولهذا قال الإمام البزار عن سعيد بن المسيب عن حذيفة قال‏:‏ خيّرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين الهجرة والنصرة فاخترت الهجرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا‏}‏، هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا بل أقاموا في بواديهم، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيبن ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال، كما روي عن يزيد بن الخصيب الأسلمي رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان رسول اللّه إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة بتقوى اللّه وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال‏:‏ ‏(‏اغزوا باسم اللّه في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم اللّه الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن باللّه وقاتلهم‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم وعنده زيادات أخرى ورواه أحمد واللفظ له‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر‏}‏، يقول تعالى‏:‏ وإن استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم لأنهم إخوانكم في الدين إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق أي مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏73‏)‏

‏{‏ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ‏}‏

لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار،

كما قال الحاكم عن أسامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يتوارث أهل ملتين ولا يرث مسلم كافراً ولا كافر مسلماً، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير‏}‏‏)‏، وفي الصحيحين‏:‏ ‏(‏لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم‏)‏ وفي المسند والسنن‏:‏ ‏(‏لا يتوارث أهل ملتين شتى‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد وأصحاب السنن وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏"‏، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين، لا يتراءى نارهما‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير مرسلاً ومتصلاً‏"‏، وروى أبو داود عن سمرة بن جندب‏:‏ أما بعد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله‏)‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير‏}‏ أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏74 ‏:‏ 75‏)‏

‏{‏ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم ‏.‏ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ‏}‏

لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا، عطف بذكر ما لهم في الآخرة، فأخبر عنهم بحقية الإيمان، وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إن كانت، وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف الذي لا ينقطع ولا ينقضي، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه، ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال‏:‏ ‏{‏والسابقون الأولون‏}‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏والذين جاءوا من بعدهم‏}‏ الآية، وفي الحديث المتفق عليه‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏ومن أحب قوماً فهو منهم‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏حشر معهم‏)‏، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏ أي في حكم اللّه، وليس المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام‏}‏ ‏"‏أخرج ابن جرير‏:‏ كان الرجل يعاقد الرجل فيقول ترثني وأرثك، فنزلت‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وأخرج ابن سعد‏:‏ آخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين الزبير بن العوام وكعب بن مالك، قال الزبير‏:‏ لقد رأيت كعباً أصابته الجراحة بأحد، فقلت‏:‏ لو مات لورثته، فنزلت هذه الآية‏"‏خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض، على القرابة الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة، بل يدلون بوارث كالخالة والخال والعمة ونحوهم، كما قد يزعمه بعضهم، بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات، كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد، على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولاً، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص واللّه أعلم‏.‏